لايشكر الله من لايشكر الناس
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه ومن وآلاه
أما بعد:
عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ مَرْفُوعًا { لَا يَشْكُرُ اللَّهَ مَنْ لَا يَشْكُرُ النَّاسَ } إسْنَادٌ صَحِيحٌ رَوَاهُ أَحْمَدُ وَأَبُو دَاوُد وَالتِّرْمِذِيُّ قَالَ فِي النِّهَايَةِ : مَعْنَاهُ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَا يَقْبَلُ شُكْرَ الْعَبْدِ عَلَى إحْسَانِهِ إلَيْهِ إذَا كَانَ الْعَبْدُ لَا يَشْكُرُ إحْسَانَ النَّاسِ وَيَكْفُرُ أَمْرَهُمْ ؛ لِاتِّصَالِ أَحَدِ الْأَمْرَيْنِ بِالْآخَرِ ، وَقِيلَ مَعْنَاهُ : أَنَّ مَنْ كَانَ عَادَتُهُ وَطَبْعُهُ كُفْرَانَ نِعْمَةِ النَّاسِ وَتَرْكَ شُكْرِهِ لَهُمْ كَانَ مِنْ عَادَتِهِ كُفْرُ نِعْمَةِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ وَتَرْكُ الشُّكْرِ لَهُ ، وَقِيلَ مَعْنَاهُ أَنَّ مَنْ لَا يَشْكُرُ النَّاسَ كَانَ كَمَنْ لَا يَشْكُرُ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ وَأَنَّ شُكْرَهُ كَمَا تَقُولُ لَا يُحِبُّنِي مَنْ لَا يُحِبُّكَ أَيْ : أَنَّ مَحَبَّتَكَ مَقْرُونَةٌ بِمَحَبَّتِي فَمَنْ أَحَبَّنِي يُحِبّكَ ، وَمَنْ لَا يُحِبُّكَ فَكَأَنَّهُ لَمْ يُحِبَّنِي .
وَهَذِهِ الْأَقْوَالُ مَبْنِيَّةٌ عَلَى رَفْعِ اسْمِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ وَنَصْبِهِ .
وَرَوَى أَحْمَدُ مِنْ حَدِيثِ الْأَشْعَثِ بْنِ قَيْسٍ مَرْفُوعًا مِثْلَ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ وَرَوَاهُ أَيْضًا بِلَفْظٍ آخَرَ { إنَّ أَشْكَرَ النَّاسِ لِلَّهِ تَعَالَى أَشْكَرُهُمْ لِلنَّاسِ } .
وَعَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا مَرْفُوعًا { مَنْ أَتَى إلَيْهِ مَعْرُوفٌ فَلْيُكَافِئْ بِهِ فَإِنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَلْيَذْكُرْهُ فَمَنْ ذَكَرَهُ فَقَدْ شَكَرَهُ} .
رَوَاهُ أَحْمَدُ .
وَفِي حَدِيثٍ آخَرَ { الْأَمْرُ بِالْمُكَافَأَةِ فَإِنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَلْيَدْعُ لَهُ } رَوَاهُ أَبُو دَاوُد وَغَيْرُهُ أَظُنُّهُ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ .
وَعَنْ أُسَامَةَ مَرْفُوعًا { مَنْ صُنِعَ إلَيْهِ مَعْرُوفٌ فَقَالَ لِفَاعِلِهِ : جَزَاكَ اللَّهُ خَيْرًا فَقَدْ أَبْلَغَ فِي الثَّنَاءِ } رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ .
وَقَالَ : حَسَنٌ صَحِيحٌ غَرِيبٌ .
قَالَ : قَدْ رُوِيَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِثْلُهُ .
وَقَالَ أَبُو دَاوُد : حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الْجَرَّاحِ حَدَّثَنَا جَرِيرُ عَنْ الْأَعْمَشِ
عَنْ أَبِي سُفْيَانَ عَنْ جَابِرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { قَالَ : مَنْ أَبْلَى بَلَاءً فَذَكَرَهُ فَقَدْ شَكَرَهُ وَإِنْ كَتَمَهُ فَقَدْ كَفَرَهُ } وَرَوَاهُ أَيْضًا بِمَعْنَاهُ مِنْ طَرِيقٍ آخَرَ وَهُوَ حَدِيثٌ حَسَنٌ وَهُوَ لِلتِّرْمِذِيِّ وَقَالَ : غَرِيبٌ وَلَفْظُهُ { مَنْ أُعْطِيَ عَطَاءً فَلْيَجْزِ بِهِ إنْ وَجَدَ وَإِنْ لَمْ يَجِدْ فَلْيُثْنِ بِهِ فَإِنَّ مَنْ أَثْنَى بِهِ فَقَدْ شَكَرَهُ وَمَنْ كَتَمَهُ فَقَدْ كَفَرَهُ ، وَمَنْ تَحَلَّى بِمَا لَمْ يُعْطِ كَانَ كَلَابِسِ ثَوْبَيْ زُورٍ } أَيْ : ذِي زُورٍ وَهُوَ الَّذِي يُزَوِّرُ عَلَى النَّاسِ يَتَزَيَّا بِزِيِّ أَهْلِ الزُّهْدِ رِيَاءً أَوْ يُظْهِرُ أَنَّ عَلَيْهِ ثَوْبَيْنِ وَلَيْسَ عَلَيْهِ إلَّا ثَوْبٌ وَاحِدٌ .
وَعَنْ النُّعْمَانِ مَرْفُوعًا { مَنْ لَمْ يَشْكُرْ الْقَلِيلَ لَمْ يَشْكُرْ الْكَثِيرَ ، وَمَنْ لَمْ يَشْكُرْ النَّاسَ لَمْ يَشْكُرْ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ ، وَالتَّحَدُّثُ بِنِعْمَةِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ شُكْرٌ وَتَرْكُهَا كُفْرٌ ، وَالْجَمَاعَةُ رَحْمَةٌ ، وَالْفُرْقَةُ عَذَابٌ } رَوَاهُ أَحْمَدُ ، وَضَعَّفَهُ ابْنُ الْجَوْزِيِّ بَعْدَ ذِكْرِهِ الْجَرَّاحَ بْنَ مَلِيحٍ وَلد وَكِيعٍ ، وَأَكْثَرُهُمْ قَوَّاهُ فَهُوَ حَدِيثٌ حَسَنٌ .
وَعَنْ أَبِي سَعِيدٍ مَرْفُوعًا { مَنْ لَمْ يَشْكُرْ النَّاسَ لَمْ يَشْكُرْ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ} .
رَوَاهُ أَحْمَدُ وَالتِّرْمِذِيُّ وَحَسَّنَهُ .
وَعَنْ أَنَسٍ قَالَ : { إنَّ الْمُهَاجِرِينَ قَالُوا يَا رَسُولَ اللَّهِ ذَهَبَتْ الْأَنْصَارُ بِالْأَجْرِ كُلِّهِ قَالَ لَا مَا دَعَوْتُمْ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ لَهُمْ وَأَثْنَيْتُمْ عَلَيْهِمْ } رَوَاهُ أَبُو دَاوُد وَالتِّرْمِذِيُّ قَالَ " مُثَنَّى بْنُ جَامِعٍ : إنَّهُ سَمِعَ أَبَا عَبْدِ اللَّهِ أَحْمَدَ بْنَ حَنْبَلٍ يَذْكُرُ عَنْ وَهْبِ بْنِ مُنَبِّهٍ تَرْكُ الْمُكَافَأَةِ مِنْ التَّطْفِيفِ " وَكَذَا قَالَ غَيْرُ وَهْبٍ مِنْ السَّلَفِ .
قَالَ أَحْمَدُ فِي رِوَايَةِ حَنْبَلٍ فِي رَجُلٍ لَهُ عَلَى رَجُلٍ مَعْرُوفٌ وَأَيَادي مَا أَحْسَنَ أَنْ يُخْبِرَ بِفِعَالِهِ بِهِ لِيَشْكُرَهُ النَّاسُ وَيَدْعُونَ لَهُ. قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : {منْ لَا يَشْكُرْ النَّاسَ لَا يَشْكُرْ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ } وَاَللَّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى يُحِبُّ أَنْ يُشْكَرَ وَيُحْمَدَ ، وَالنَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَحَبَّ الشُّكْرَ .
وَفِي الصَّحِيحَيْنِ أَنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ قَالَ : { يَا مَعْشَرَ النِّسَاءِ تَصَدَّقْنَ وَأَكْثِرْنَ الِاسْتِغْفَارَ فَإِنِّي رَأَيْتُكُنَّ أَكْثَرَ أَهْلِ النَّارِ فَقَالَتْ امْرَأَةٌ مِنْهُنَّ جَزْلَةٌ : وَمَا لَنَا أَكْثَرُ أَهْلِ النَّارِ ؟ قَالَ : تُكْثِرْنَ اللَّعْنَ وَتَكْفُرْنَ الْعَشِيرَ } .
جَزْلَةٌ بِفَتْحِ الْجِيمِ وَسُكُونِ الزَّايِ أَيْ : ذَاتُ عَقْلٍ وَرَأْيٍ ، وَالْجَزَالَةُ : الْعَقْلُ وَالْوَقَارُ فَقَدْ تَوَعَّدَ عليه السلام عَلَى كُفْرَانِ الْعَشِيرِ وَهُوَ فِي الْأَصْلِ الْمُعَاشَرُ وَالْمُرَادُ هُنَا الزَّوْجُ ، تَوَعَّدَ عَلَى كَفْرَانِ الْعَشِيرِ وَالْإِحْسَانِ بِالنَّارِ ، فَدَلَّ عَلَى أَنَّهُ كَبِيرَةٌ عَلَى نَصِّ أَحْمَدَ رَحِمَهُ اللَّهُ بِخِلَافِ اللَّعْنِ فَإِنَّهُ قَالَ : " تُكْثِرْنَ اللَّعْنَ " وَالصَّغِيرَةُ تَصِيرُ كَبِيرَةً بِالْكَثْرَةِ .
وَلِأَحْمَدَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ { مَا أَنْعَمَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ عَلَى عَبْدٍ نِعْمَةً إلَّا وَهُوَ يُحِبُّ أَنْ يَرَى أَثَرَهَا عَلَيْهِ } أَيْضًا بِإِسْنَادٍ ضَعِيفٍ مِنْ حَدِيثِ مُعَاذِ بْنِ أَنَسٍ { أَنَّ لِلَّهِ تَعَالَى عِبَادًا لَا يُكَلِّمُهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلَا يُزَكِّيهِمْ وَلَا يَنْظُرُ إلَيْهِمْ قِيلَ مَنْ أُولَئِكَ ؟ قَالَ : مُتَبَرٍّ مِنْ وَالِدَيْهِ رَاغِبٌ عَنْهُمَا مُتَبَرٍّ مِنْ وَلَدِهِ وَرَجُلٌ أَنْعَمَ عَلَيْهِ قَوْمٌ فَكَفَرَ نِعْمَتَهُمْ وَتَبَرَّأَ مِنْهُمْ } .
وَقَدْ رُوِيَ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ : قَالَ لِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : أَنْشِدِينِي شِعْرَ ابْنِ الْعَرِيضِ الْيَهُودِيِّ حَيْثُ قَالَ : إنَّ الْكَرِيمَ فَأَنْشَدَتْ :
إنَّ الْكَرِيمَ إذَا أَرَادَ وِصَالَنَا ** لَمْ يُلْفِ حَبْلًا وَاهِيًا رَثَّ الْقُوَى
أَرْعَى أَمَانَتَهُ وَأَحْفَظُ غَيْبَهُ * *جَهْدِي فَيَأْتِي بَعْدَ ذَلِكَ مَا أَتَى
أَجْزِيهِ أَوْ أُثْنِي عَلَيْهِ فَإِنَّ مَنْ ** أَثْنَى عَلَيْكَ بِمَا فَعَلْتَ فَقَدْ جَزَى
قالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ : هَذَا الشِّعْرُ مَا يَصِحُّ فِيهِ إلَّا مَا رُوِيَ عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ عَنْ أَبِيهِ عَنْ عَائِشَةَ لِلْعَرِيضِ الْيَهُودِيِّ وَهُوَ الْعَرِيضُ بْنُ السَّمَوْأَلِ بْنِ عَادِيَا الْيَهُودِيُّ مِنْ وَلَدِ الْكَاهِنِ بْنِ هَارُونَ ، شَاعِرٌ ابْنُ شَاعِرٍ وَأَمَّا أَهْلُ الْأَخْبَارِ فَاخْتَلَفُوا فِي قَائِلِهِ فَقِيلَ لِوَرَقَةِ بْنِ نَوْفَلٍ وَقِيلَ لِزُهَيْن بْنِ خبابٍ الْكَلْبِيِّ وَقِيلَ لِعَامِرِ بْنِ الْمَجْنُونِ ، وَقِيلَ لِزَيْدِ بْنِ عَمْرِو بْنِ نُفَيْلٍ ، وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ إنَّهَا لِزَيْدِ بْنِ عَمْرِو ، وَلِوَرَقَةِ بْنِ نَوْفَلٍ الْبَيْتَانِ وَلَمْ أَذْكُرْهُمَا أَنَا هُنَا ، قَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ : وَالصَّحِيحُ فِيهِمَا وَفِي الْأَبْيَاتِ غَيْرِهِمَا أَنَّهُمَا لِلْعَرِيضِ الْيَهُودِيِّ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
وَقَالَ ابْنُ أَبِي لَيْلَى : أَنْشَدَنِي الْحُسَيْنُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ :
لَوْ كُنْتُ أَعْرِفُ فَوْقَ الشُّكْرِ مَنْزِلَةً ** أَعْلَى مِنْ الشُّكْرِ عِنْدَ اللَّهِ فِي الثَّمَنِ
إذًا مَنَحْتُكَهَا مِنِّي مُهَذَّبَةً ** حَذْوًا عَلَى حَذْوِ مَا أَوْلَيْتَ مِنْ حَسَنِ
وَمِمَّا أَنْشَدَهُ الرِّيَاشِيُّ :
شُكْرِي كَفِعْلِكَ فَانْظُرْ فِي عَوَاقِبِهِ ** تَعْرِفْ بِفِعْلِكَ مَا عِنْدِي مِنْ الشُّكْرِ
وَقِيلَ لِسَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : الْمَجُوسِيِّ يُولِينِي خَيْرًا فَأَشْكُرُهُ قَالَ : نَعَمْ وَقَالَ بَعْضُهُمْ :
إنَّنِي أُثْنِي بِمَا أَوْلَيْتَنِي ** لَمْ يُضِعْ حُسْنَ بَلَاءٍ مَنْ شَكَرِ
إنَّنِي وَاَللَّهِ لَا أَكْفُرُكُمْ ** أَبَدًا مَا صَاحَ عُصْفُورُ الشَّجَرْ
وَقَالَ آخَرُ :
فَلَوْ كَانَ يَسْتَغْنِي عَنْ الشُّكْرِ مَاجِدٌ ** لِعِزَّةِ مُلْكٍ أَوْ عُلُوِّ مَكَانِ
لَمَا نَدَبَ اللَّهُ الْعِبَادَ لِشُكْرِهِ ** فَقَالَ اُشْكُرُونِي أَيُّهَا الثَّقَلَانِ
وَقَالَ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ : ذِكْرُ النِّعَمِ شُكْرٌ .
وَقَالَ جَعْفَرُ بْنُ مُحَمَّدٍ : مَنْ لَمْ يَشْكُرْ الْجَفْوَةَ لَمْ يَشْكُرْ النِّعْمَةَ ، كَذَا ذَكَرَهُ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ عَنْهُ فَإِنْ صَحَّ فَفِيهِ نَظَرٌ ، قَالَ الشَّاعِرُ :
وَمَا تَخْفَى الصَّنِيعَةُ حَيْثُ كَانَتْ ** وَلَا الشُّكْرُ الصَّحِيحُ مِنْ السَّقِيمِ
وَقَالَ سلَيْمَانُ التَّيمِيُّ : إنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ أَنْعَمَ عَلَى عِبَادِهِ بِقَدْرِ طَاعَتِهِمْ وَكَلَّفَهُمْ مِنْ الشُّكْرِ بِقَدْرِ طَاقَتِهِمْ ، فَقَالُوا : كُلُّ شُكْرٍ وَإِنْ قَلَّ : ثَمَنٌ لِكُلِّ نَوَالٍ وَإِنْ جَلَّ .
وَقَالَ رَجُلٌ مِنْ قُرَيْشٍ لِأَشْعَبَ : الطَّمَعُ يَا أَشْعَبُ ، أَحْسَنْتُ إلَيْكَ فَلَمْ تَشْكُرْ ، فَقَالَ : إنَّ مَعْرُوفَكَ خَرَجَ مِنْ غَيْرِ مُحْتَسِبٍ إلَى غَيْرِ شَاكِرٍ ، وَقَالُوا : لَا تَثِقْ بِشُكْرِ مَنْ تُعْطِيهِ حَتَّى تَمْنَعَهُ .
وَقَالَ جَعْفَرُ بْنُ مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللَّهُ : مَا مِنْ شَيْءٍ أَسَرُّ إلَيَّ مِنْ يَدٍ أُتْبِعُهَا أُخْرَى ؛ لِأَنَّ مَنْعَ الْأَوَاخِرِ ، يَقْطَعُ لِسَانَ شُكْرِ الْأَوَائِلِ .
وَذَكَرَ غَيْرُ ابْنِ عَبْد الْبَرِّ قَوْلَ ابْنِ شُبْرُمَةَ : مَا أَعْرَفَنِي بِجَيِّدِ الشِّعْرِ :
أُولَئِكَ قَوْمٌ إنْ بَنَوْا أَحْسَنُوا الْبِنَا ** وَإِنْ عَاهَدُوا أَوْفَوْا وَإِنْ عَقَدُوا شَدُّوا
وَإِنْ كَانَتْ النَّعْمَاءُ فِيهِمْ جَزَوْا بِهَا ** وَإِنْ أَنْعَمُوا لَا كَدَّرُوهَا وَلَا كَدُّوا
وَإِنْ قَالَ مَوْلَاهُمْ عَلَى حَمْلِ حَادِثِ ** مِنْ الْأَمْرِ رُدُّوا فَضْلَ أَحْلَامِكُمْ رَدُّوا
وَسَأَلَ حَمَّادُ بْنُ سَلَمَةَ الْأَصْمَعِيَّ كَيْفَ تُنْشِدُ هَذَا الْبَيْتَ يَعْنِي الْبَيْتَ الْأَوَّلَ فَأَنْشَدَهُ وَقَالَ : الْبِنَاءُ بِكَسْرِ الْبَاءِ ، فَرَدَّ عَلَيْهِ : اُلْبُنَا بِضَمِّ الْبَاءِ .
وَقَالَ : إنَّ الْقَوْمَ إنَّمَا بَنَوْا الْمَكَارِمَ لَا اللَّبِنَ وَالطِّينَ ، وَذَكَرَ غَيْرُ وَاحِدٍ كَسْرَ الْبَاءِ وَضَمَّهَا ، فَالْكَسْرُ جَمْعُ بِنْيَةٍ نَحْوَ كِسْرَةٍ وَكِسَرٍ ، وَالضَّمُّ جَمْعُ بُنْيَةٍ نَحْوَ ظُلْمَةٍ وَظُلَمٍ ، قَالُوا : وَكَانَ حَمَّادُ بْنُ سَلَمَةَ رَأَى الضَّمَّ لِئَلَّا يَشْتَبِهَ بِالْبِنَاءِ بِمَعْنَى الْعِمَارَةِ بِاللَّبِنِ وَالطِّينِ وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ أَعْلَمُ .
وَقَالَ ابْنُ هُبَيْرَةَ الْوَزِيرُ الْحَنْبَلِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى : إنَّمَا يُبَالَغُ فِي التَّوَسُّلِ إلَى الْبَخِيلِ لَا إلَى الْكَرِيمِ كَمَا قَالَ ابْنُ الرُّومِيِّ :
وَإِذَا امْرُؤٌ مَدَحَ امْرَأً لِنَوَالِهِ ** وَأَطَالَ فِيهِ فَقَدْ أَسَرَّ هِجَاءَهُ
لَوْ لَمْ يُقَدِّرْ فِيهِ بُعْدَ الْمُسْتَقَى ** عِنْدَ الْوُرُودِ لَمَا أَطَالَ رِشَاءَهُ .
الآداب الشرعية لابن مفلح رحمه الله(ج1/235-239).